
حفظ كملف ورد
...
كان .. ما .. كان
خذوا ما آتيناكم
قال الله تعالى ﴿وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون • ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين﴾ البقرة 63-64، وقال تعالى ﴿وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون﴾ الاعراف 171.
قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور: هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة. قال أبو عبيدة: المعنى: زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال: وكل شىء قلعته فرميت به فقد نتقته. وقيل: نتقناه رفعناه. قال ابن الأعرابى الناتق الرافع، والناتق الباسط، والناتق الفاتق. وامرأة ناتق ومنتاق: كثيرة الولد. وقال القتبى: أخذ ذلك من نتق السقاء، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه. قال وقوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة: قال: قلع من أصله.
واختلف فى الطور، فقيل: الطور اسم للجبل الذى كلم الله عليه موسى
وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره، رواه ابن جريج عن ابن عباس. وروى الضحاك عنه: أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت. وفى رواية عن ابن عباس: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور. وقال مجاهد وقتادة: أى جبل كان. إلا أن مجاهدا قال: هو اسم لكل جبل بالسريانية، وقاله أبو العالية. وقد قال المفسرون: أن قد وقع فى القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام. وزعم البكرى أنه سمى بطور بن إسماعيل
.
قال ابن عباس وغير واحد من السلف: لما جاءهم موسى بالالواح فيها التوراة أمرهم بقبولها والأخذ بها بقوة وعزم. فقالوا مشترطين: انشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها. فقال: بل اقبلوها بما فيها، فراجعوه مرارا، فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رؤوسهم حتى صار كأنه ظلة، أى غمامة، على رؤوسهم.
وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلا سقط هذا الجبل عليكم فقبلوا ذلك وأمروا بالسجود فسجدوا، فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم، فصارت سنة لليهود إلى اليوم -السجود على شق الوجه- يقولون لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب.
وقال السدى فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم، فقالوا والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم، فهم يسجدون كذلك، وذلك قوله تعالى ﴿ورفعنا فوقكم الطور﴾.
وقال سنيد بن داود عن حجاج بن محمد، عن أبى بكر بن عبد الله قال: فلما نشرها لم يبق على وجه الارض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس على وجه الارض يهودى صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه.
وقال الحسن فى قوله ﴿خذوا ما آتيناكم بقوة﴾ يعنى التوراة.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس: بقوة أى بطاعة. وقال مجاهد: بقوة: بعمل بما فيه. وقال قتادة: خذوا ما آتيناكم بقوة: القوة: الجد وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة. ومعنى قوله: وإلا قذفته عليكم، أى أسقطته عليكم، يعنى الجبل.
وقال أبو العالية والربيع: واذكروا ما فيه: يقول: اقرؤوا ما فى التوراة واعملوا به.
وقوله تعالى: ثم توليتم من بعد ذلك: يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه. فلولا فضل الله عليكم ورحمته: أى: توبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم. لكنتم من الخاسرين: بنقضكم ذلك الميثاق فى الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى ﴿ثم توليتم من بعد ذلك﴾ أى ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم والامر الجسيم نكثتم عهودكم ومواثيقكم ﴿فلولا فضل الله عليكم ورحمته﴾ بأن تدارككم بالارسال إليكم وإنزال الكتب عليكم ﴿لكنتم من الخاسرين﴾.
ومن أقوال المفسرين فى هذه الآيات:
قال البقاعى:
ثم ذكر أنه لما أقلع عنهم تولوا عن الحضرة الشريفة إلى حضرات الشيطان فأكرموا المعاصى إشارة إلى أنهم أغلظ الناس أكبادًا وأكثرهم جرأة وعنادًا لا يرعوون لرهبة ولا يثبتون لرغبة فقال تعالى ﴿وإذ﴾ وأخصر من هذا أن يقال إنه لما قرر سبحانه قوله للعالم العامل المذعن كائنًا من كان تلاه بما لليهود من الجلافة الداعية إلى النفور عن خلال السعادة التى هى ثمرة للعلم وما له سبحانه من التطول عليهم بإكراههم على ردهم إليه، فقال وإذ: أى: اذكروا يا بنى إسرائيل إذ﴿ أخذنا ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ميثاقكم﴾ بالسمع والطاعة من الوثيقة وهى تثنية العهد تأكيدًا كإثباته بالكتاب- قاله الحرالى.
﴿ورفعنا﴾ ولما كان الجبل قد صار فوقهم كالظلة عامًا لهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان نزع الجار فقال
﴿وفوقكم الطور﴾ ترهيبًا لكم لتقبلوا الميثاق الذى هو سبب سعادتكم. وعن ابن عباس
أنه كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت فليس بطور، وقلنا لكم وهو مظل فوقكم ﴿وخذوا ما آتيناكم﴾ من الكتاب للسعادة بطاعتى والتزام أحكامى الموجبة للكون فى حضرتى ﴿بقوة﴾ أى بجد واجتهاد، والقوة باطن القدرة، من القوى وهى طاقات الحبل التى يمتن بها ويؤمن انقطاعه- قاله الحرالى.
﴿واذكروا ما فيه﴾ من التمسك به وللانتقال عنه عند مجىء الناسخ المنعوت فيه ذكرًا يكون بالقلب فكرًا وباللسان ذكرًا ﴿لعلكم تتقون﴾ أى: لتكونوا على رجاء من أن تتقوا موجبات السخط.
ولما كان التقدير: فأخذتم ذلك وأوثقتم العهد به خوفًا من أن يدفنكم بالجبل عطف عليه وأشار إلى أنه من حقه البعد عن تركه بأداة البعد. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن هذا هو الإنعام العاشر وذلك لأنه تعالى إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم فصار ذلك من إنعامه عليهم.
أما قوله تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم﴾ ففيه بحثان:
الأول: اعلم أن الميثاق إنما يكون بفعل الأمور التى توجب الانقياد والطاعة، والمفسرون ذكروا فى تفسير الميثاق وجوهًا، أحدها: ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته والدلائل الدالة على صدق أنبيائه ورسله، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود لأنها لا تحتمل الخلف والتبديل بوجه ألبتة وهو قول الأصم،
وثانيها: ما روى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن موسى
لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم: إن فيها كتاب الله فقالوا: لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابى فخذوه. فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم ثم قال لهم بعد ذلك: خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، فأخذوه فرفع الطور هو الميثاق، وذلك لأن رفع الطور آية باهرة عجيبة تبهر العقول وترد المكذب إلى التصديق والشاك إلى اليقين، فلما رأوا ذلك وعرفوا أنه من قبله تعالى علمًا لموسى
علمًا مضافًا إلى سائر الآيات أقروا له بالصدق فيما جاء به وأظهروا التوبة وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل وأن يقوموا بالتوراة فكان هذا عهدًا موثقًا جعلوه لله على أنفسهم، وهذا هو اختيار أبى مسلم.
قال الألوسى:
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم﴾ تذكير بنعمة أخرى، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم، والظاهر من الميثاق هنا العهد، ولم يقل: مواثيقكم، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره فكان ميثاقًا واحدًا ولعله كان بالانقياد لموسى
، واختلف فى أنه متى كان؟ فقيل: قبل رفع الطور؛ ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم﴾ النساء: 154، الخ، وقيل: كان معه. اهـ.
وعن أبى حاتم عن ابن عباس أن موسى
لما جاءهم بالتوراة وما فيها من
التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا؛ وكان على قدر عسكرهم فرسخًا فى فرسخ ورفع فوقهم قدر قامة الرجل.
قال القرطبى:
وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بنى إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزِموها. فقالوا: لا! إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلّمك. فصعِقوا ثم أُحْيُوا. فقال لهم: خذوها. فقالوا: لا.
فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ فى مثله؛ وكذلك كان عسكرهم؛ فجُعل عليهم مثل الظُّلة، وأُتُوا ببحرِ من خَلْفِهم، ونار من قِبَل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيّعوها، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبةً لله وأخذوا التوراة بالميثاق.
قال الطبرى عن بعض العلماء:
لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق.
وكان سجودهم على شِقّ؛ لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفًا؛ فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله ورَحِم بها عباده، فأمَرّوا سجودَهم على شِق واحد.
قال ابن عطية: والذى لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان ﴿فى قلوبهم﴾لا أنهم آمنوا كرهًا وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.
وقد روى النسائى عن أبى سعيد الخُدْرِىّ أن رسول الله
قال (إنّ مِن شرّ الناس رجلا فاسقًا يقرأ القرآن لا يَرْعَوِى إلى شىء منه) فبّين
أن المقصود العمل.
وقال مالك: قد يقرأ القرآنَ مَن لا خير فيه. فما لزم إذًا مَن قبلنا وأُخذ عليهم لازمٌ لنا وواجبٌ علينا.
روى الترمذى عن جُبَيْر بن نُفَيْر عن أبى الدّرداء قال: كنا مع النبى
، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال (هذا أوانٌ يُختلس فيه العلمُ من الناس حتى لا يقدرِوا منه على شىء). فقال زياد بن لَبِيد الأنصارىّ: كيف يُختلس منا وقد قرأنا القرآن! فوالله لَنقْرَأنه ولنُقرِئنّه نساءنا وأبناءنا. فقال (ثَكِلَتْك أمُّك يا زياد إن كنتُ لأعُدّك من فقهاء المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تُغنى عنهم) وذكر الحديث.
وفى المُوَطَأ عن عبد الله بن مسعود قال لإنسان (إنك فى زمانٍ كثيرٍ فقهاؤه، قليلٍ قُرّاؤه، تُحفظ فيه حدودُ القرآن وتُضَيّع حروفه، قليل مَن يسأل، كثيرٍ مَن يُعطِى، يطيلون الصلاة ويُقْصِرون فيه الخطبة، يبدأون فيه أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتى على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ قراؤه، تُحفظ فيه حروف القرآن، وتُضيّع حدوده؛ كثيرٌ من يسأل، قليلٌ من يعطى، يطيلون فيه الخطبة، ويقصِرون الصلاة، يبدأون فيه أهواءهم قبل أعمالهم) وهذه نصوص تدل على ما ذكره المفسرون.
وقد قال يحيى: سألت ابن نافع عن قوله: يبدأون أهواءهم قبل أعمالهم؟ قال يقول: يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذى افترض عليهم. اهـ.
الراوى
...